إعادة الهندسة الجيوسياسية في الشرق الأوسط: تحولات عميقة في توازن القوى
يشهد الشرق الأوسط مرحلة غير مسبوقة من إعادة الهندسة الجيوسياسية، حيث تتغير خارطة التحالفات والتهديدات والفرص بشكل جذري. تتقاطع في هذه المنطقة قوى إقليمية صاعدة، وتدخلات دولية متزايدة ،وصراعات مزمنة، إلى جانب تحولات في وعي الشعوب وطرق المقاومة. لقد أصبحت المنطقة ساحة اختبار حقيقية لنظام عالمي جديد قيد التشكل، تعُاد فيه صياغة موازين القوى والمعايير الأخلاقية والسياسية.
أو الا: تفكك المعادلات القديمة وصعود توازنات جديدة
لم تعد المعادلة الجيوسياسية التي حكمت الشرق الأوسط منذ الحرب الباردة قائمة. ما يحدث اليوم هو تفكك ثلاثي الأبعاد:
- تفكك التحالفات التقليدية: مثل المحور الأمريكي - الإسرائيلي - الخليجي، الذي بدأ يواجه تحديات داخلية وخارجية، خصوصًا بعد الانسحاب الأمريكي التدريجي من المنطقة.
- انكشاف الهشاشة الأمنية لكيانات مدعومة غربياً، كما أظهرته عملية "طوفان الأقصى."
- صعود قوى إقليمية مستقلة: مثل إيران وتركيا والجزائر، التي تسعى لفرض شروطها على التوازنات الإقليمية.
ثان ايا: "طوفان الأقصى" كعامل مفصلي في إعادة تشكيل المشهد
تعد عملية "طوفان الأقصى "التي أطلقتها المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر 2023 لحظة انعطاف جيوسياسي:
- أربكت الحسابات الإسرائيلية والغربية، وكشفت ضعف ما يسمى بـ"الردع الإسرائيلي."
- أعادت تعريف دور المقاومة كفاعل استراتيجي، لا مجرد رد فعل على الاحتلال.
- أثرت على توجهات دول الإقليم، حيث أعادت بعض الأنظمة النظر في رهانات التطبيع، بينما عززت شعوب المنطقة دعمها للمقاومة.
- حفّزت الاستقطاب الإقليمي بين محور داعم للمقاومة ومحور يراهن على الحماية الغربية.
ثالثاا: التنافس بين القوى الإقليمية الكبرى
- إيران: تواصل تعزيز نفوذها عبر حلفائها في لبنان، سوريا، اليمن والعراق، وتستثمر في خطاب "الممانعة "ضمن استراتيجية طويلة الأمد.
- تركيا: تلعب دورًا مزدوجًا: شراكة مع الغرب من جهة، وعلاقات متنامية مع روسيا ودول الخليج من جهة أخرى، ما يمنحها مرونة استراتيجية.
- السعودية: تشهد تحولًا في مقاربتها، من الاعتماد على الولايات المتحدة إلى تنويع الشركاء، والانفتاح على الصين وروسيا، وهو ما بدا في اتفاقها مع إيران بوساطة صينية.
- الجزائر: تعُد من القوى الصاعدة التي تؤمن بمبدأ عدم الانحياز والدفاع عن قضايا التحرر، وتطرح رؤية جديدة للأمن الإقليمي، قوامها الاستقلالية، السيادة، والتكامل الإفريقي-العربي.
راب اعا: دور القوى الدولية في إعادة تشكيل المنطقة
- الولايات المتحدة تعيد تموضعها في المنطقة، مفضلة الأدوار غير المباشرة والتكنولوجيا العسكرية.
- الصين تدخل بقوة من بوابة الاقتصاد والدبلوماسية، كما في وساطتها بين السعودية وإيران.
- روسيا تستثمر في الصراعات من سوريا إلى ليبيا، وتطرح نفسها كضامن موازٍ للغرب.
- أما الاتحاد الأوروبي فيظل مشوشًا، موزعًا بين التبعية للولايات المتحدة والقلق من تداعيات الهجرة والطاقة.
خام اسا: سيناريوهات محتملة لمستقبل المنطقة
- السيناريو الأول: التعددية القطبية — تتحول المنطقة إلى ساحة توازنات مرنة، تتعايش فيها القوى الإقليمية بتفاهمات جديدة.
- السيناريو الثاني: فوضى إقليمية ممتدة — في حال فشل التفاهمات وتزايد التصعيد، قد تدخل المنطقة في حروب استنزاف طويلة.
- السيناريو الثالث: صعود تحالفات جنوبية — تشهد المنطقة تقاربًا بين دول الجنوب (الجزائر، إيران، جنوب إفريقيا، تركيا...) ضمن رؤية جديدة للعالم، تقوم على العدالة والتعددية.
من التفكك إلى إعادة البناء
إعادة الهندسة الجيوسياسية في الشرق الأوسط ليست مجرد صراع نفوذ، بل تحول في طبيعة القوة نفسها.
لم تعد السيطرة تعتمد فقط على السلاح والمال، بل على الشرعية، السيادة، والرؤية الاستراتيجية.
في هذا السياق، تظهر دول مثل الجزائر كفاعلين عقلانيين في بيئة مشحونة، بينما تمثل المقاومة الفلسطينية حالة كاشفة لحدود القوة التقليدية وفاعلية الردع الشعبي.
إن الشرق الأوسط الجديد يبُنى اليوم على ركام التوازنات القديمة، ويعيد صياغة معادلات القوة والشرعية، بما قد يحدد ليس فقط مصيره، بل ملامح النظام العالمي القادم.
إيمان حسين
إرسال تعليق