صناعة الزرابي في غرداية وتلمسان: بين الذاكرة الجماعية والهوية الثقافية
غرداية: البساطة كجمالية وهوية
في قلب وادي ميزاب، تنُسج زرابي غرداية وفق أسلوب يعكس فلسفة الإباضية في التوازن والاعتدال. ألوانها محدودة – الأحمر القرمزي، الأسود، والأبيض – لكنها غنية بالدلالات الرمزية. نقوشها الهندسية الصارمة تجسد النظام الاجتماعي والروحي لمجتمع متماسك. هنا تتحول الزربية إلى مرآة لقيم الانضباط والانسجام، وتغدو القطعة المنسوجة سجلاً غير مكتوب للذاكرة الميزابية.
تلمسان: الأناقة الفنية وثراء الرموز
أما في تلمسان، فصناعة الزرابي ترتبط بتاريخ أندلسي وروح أرستقراطية. الألوان أكثر تنوعاً وحيوية: الأزرق النيلي، الأخضر الزمردي، والأصفر الذهبي، تعكس انفتاح المنطقة على الحرف الأندلسية والفنون الإسلامية. الزخارف أكثر تعقيداً وتداخلًا، حيث تتشابك الورود والأشكال النباتية مع النجوم والخطوط العربية، فتجعل من الزربية تحفة تحمل بعداً جمالياً وروحياً في آن واحد.
المشترك والاختلاف
رغم تباين الأشكال والرموز، فإن زرابي غرداية وتلمسان تشترك في كونها نتاجاً لخبرة نسائية متوارثة عبر الأجيال. كل غرُزة هي امتداد ليد الجدات، وكل رمز هو حكاية ترُوى على بساط صوفي. غير أنّ غرداية تميل إلى التجريد والصرامة الرمزية، بينما تلمسان تجُسد البذخ الفني والتنوع الجمالي.
التحديات والآفاق
اليوم تواجه هذه
الحرفة تحديات كبرى: غزو المنتجات الصناعية الرخيصة، وتراجع الإقبال لدى الأجيال
الشابة، إضافة إلى ضعف الدعم المؤسساتي. لكن هناك بوادر أمل، إذ تسعى جمعيات محلية
إلى تسجيل هذه الصناعات في قوائم التراث اللامادي لليونسكو، وإعادة دمج الزربية في
السياق السياحي والثقافي المعاصر.
صناعة الزرابي في غرداية
وتلمسان ليست مجرد حرفة منزلية، بل هي لغة ثقافية تحفظ الذاكرة وتجُسد
الهوية. وبين هندسية غرداية ورمزية تلمسان، تظل الزربية الجزائرية إرثاً حضارياً
يطالب بالحماية والتجديد كي لا تنقطع خيوطه بين الماضي والمستقبل.
